توجان فيصل: جيرة حسنة!

اعترفت إسرائيل أن جيش الاحتلال” استثمر” أكثر من خمسة ملايين دولار في إقامة وتشغيل هيئة تسمّى “جيرة حسنة” أسست قبل حوالي العام وتعنى بدعم مسلحين دواعش على حدودها في سوريا، بمساعدات عسكرية بلغت في العام الحالي فقط 32 مليون دولار.. وهذا غير كلفة علاج مصابيهم في إسرائيل.

 تسمية الهيئة عجيبة، وتوجب تنبه بقية جيران إسرائيل الأقرب والأبعد. وعينة من تلك “الجيرة الحسنة” تتبدى في تقرير نشرته “هاآرتس” عن توقعاتها لمستقبل الأردن، إذ تتحدث عن “جانب سيؤثر على المملكة بشكل كبير على المدى البعيد، ويجعل مستقبلها أسوأ من محيطها”، وهو تغيرات المناخ والاحتباس الحراري الذي أدّى لفترات جفاف “ستكون أطول وأكثر من أي وقت مضى، وستتكرّر مستقبلاً ما سيؤثر على تدفق الأنهار”. وحذرت من “سرعة وتيرة التصحّر في الأردن”. واللافت أن التقرير يقول إن شمال الأردن وشمال الأراضي الفلسطينية المحتلة سيكونان الأكثر تأثراً بالتغيير المناخي، في حين أن الصحراء الأردنية تقع لجهة شرق وجنوب البلاد، فيما شمالها وشمال فلسطين هو الأغنى مائياً “طبيعياً” كونه يقع ضمن حوض نهر اليرموك وروافد نهر الأردن العديدة.

والأهم أن ما أدّى لتصحّر عشرات آلاف الدونمات في ذات وادي الأردن بدءاً من شماله، لا علاقة له بتغيرات المناخ، بل بما قامت به إسرائيل من تحويل لمجرى نهر الأردن العلوي إلى النقب في مشروع ضخ مكلف لكونه يضخ المياه من منطقة منخفضة جداً عن مستوى البحر لمنطقة مرتفعه عنه، ولهذا يستهلك ثلث الطاقة الكهربائية في إسرائيل. وبمعية الأردنيين، يجري بهذا الضخ حرمان الفلسطينيين (في الضفة الغربية) من حصتهم في المياه بما يبقيهم في حالة تخلف تنموي.

يضاف لهذا (كعينة من التاريخ المنسي) ما جرى لنهر اليرموك، وهو أحد روافد نهر الأردن، ويبلغ طوله 40 كيلومتراً، 23 منها في الأراضي السورية والباقي في الأردن وفلسطين، ما يجعله عينة دالة في قضية “التصحر والعطش”. فعند محاولة بناء سد على نهر اليرموك (سد الوحدة أو المقارن)، بقرار للجامعة العربية في أول انعقاد لاجتماعها عام 1964 بإقامة مشاريع استثمار سوري لبناني أردني لمياه أنهار الأردن والليطاني واليرموك.. شنّت إسرائيل سلاسل قصف لموقع المشروع طوال العالم 1964 في شباط وآذار وأيار وتموز، وفي تشرين الثاني استعملت قنابل النابالم المحرمة في قصف منشآت وورش المشروع، وواصلت مهاجمة مناطق التحويل في سوريا والأردن طوال شهر أيار عام 1965. وأذكر هنا أن الأردن دفع تعويضاً للمقاول (المصري واسمه عثمان عثمان على ما أذكر) بمليون دولار. والمليون حينها كان رقماً صادماً، بخاصة لأننا دفعناه ثمناً لعدوان جرى علينا بدل أن نتلقى تعويضاً عنه! ومن بعدها توالت تجاوزات إسرائيل على حقوقنا المائية عنوة، ثم بقبول منا في اتفاقية وادي عربة الذي تكفي قراءة الفصل والملحق المتعلقين بالمياه لنعرف ما جرى وسيجري لنا، والأهم لنعرف حقيقة “الجيرة الحسنة” التي تبشرنا بمستقبل “أسوأ من محيطنا”!

التحوّط من التغيّر المناخي لا يلزمه خوض حرب أو نزاع مع جار، ولن يجرّ علينا حرباً وعدواناً كالذي ذكرته أعلاه، بل قد يمحو آثار ومصادر العدوان الذي جرى علينا (جمعاً كعرب)عام 1967. فإسرائيل الآن لا تقدرعلى كلفة العدوان، أقله ليس خارج حدود فلسطين التي تحتلها أو تحاصرها بكاملها. ولهذا تريد لنا أن نخوض حرب مياه بالوكالة عنها، والتي هي حرب بقاء بالنسبة لها.

فالمياه بالنسبة لإسرائيل قضية وجود أو عدم. وهذا ما قاله الصهاينة المؤسسون، ولافت أنه جرى التأسيس لإقامة الكيان الإسرائيلي بإقامة أول مستوطنة (روشبينا) في الجليل الأعلى عام 1878، وتلتها إقامة عدة مستوطنات على الجانب الغربي من بحيرة الحولة عام 1883، ومستوطنة “مشمار هاي باروك” قرب الحدود اللبنانية وفي منطقة حوض الأردن.. وحينها قال هيرتزل: “إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة – القديمة – هم مهندسو المياه، فعليهم يعتمد كل شيء من تجفيف المستنقعات إلى ري المساحات الجديدة وإنشاء محطات توليد الطاقة الكهرومائية”.. ولمحطات التوليد تلك قصة أخرى ذات شجون. أما ما قاله قادة الكيان بعد إقامته، فنقتبس قول بن غوريون عام 1955 “اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، فإذا لم تنجح هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين”.

ما يصفه التقرير بأنه “مثير للسخرية” (بينما لعبة التقرير كلها كذلك) هو أنه “عند انتهاء الحرب في سوريا وإذا استعادت الزراعة السورية عافيتها فسيكون الأردن الذي استقبل مئات الآلاف حينها من اللاجئين أسوأ حالاً جراء التغيّر المناخي والعطش المتزايد للمياه”.. وكأن هذا الاستهلاك المقنن بطبيعة أحوال اللجوء، والذي سيعود أغلبه “حينها”، هو ما سيهدّد الأردن بالعطش!

ولكن ماذا عن الأردنيين الذين يشربون منذ عقود الماء المالح (نتيجة تحويل مياه نهرالأردن الأعلى للنقب) وأيضاً الملوّث بالمياه العادمة (بررته بأن ديانتها لا تسمح باستعماله بما يفيد أن ديانتنا تسمح)، والذي يضخّ لنا من بحيرة طبرية التي ارتضينا أن تصبّ فيها حصتنا من مياه اليرموك العذبة؟!