طه خليفة: المُعلن والخفي بشأن القدس

صوّت العرب كلُهم لصالح قرار القدس في الجمعية العامّة للأمم المتحدة يوم الخميس الماضي. 21 دولة، ورقم 22 فلسطين، وهي عضو مراقب ليس لها حق التصويت. هذا أمر جيّد في الشكل، وفي الجوهر أيضاً، لكنّ هناك شيئاً ما بات يُثير القلق من اتخاذ دول عربيّة للموقف الصحيح. هل كان متصوراً ألا تصوّت دولة، أو أكثر بجانب القرار؟، نعم، ظننت أنه يُمكن أن يحدث غياب عن الجلسة، فقد غابت 21 دولة من أعضاء الجمعية العامّة مثلاً، أو يحدث امتناع عن التصويت، فقد امتنعت 35 دولة، لكن الحمد لله أن بلداً عربياً واحداً لم يكن بين المُتغيّبين أو المُمتنعين، ولو حدث ذلك لكانت كارثة حقيقيّة، ولقلنا على العرب السلام، كانت ستصير خيانة علنيةً وعالميةً لا تُمحى من التاريخ أبداً.

ما الذي يجعل الشكوك تتسرّب بأن بعض العرب قد لا يتخذون الموقفَ الصحيحَ في القضايا الصحيحة؟، بسبب طبيعة العلاقات مع أمريكا، فهي علاقات تحالف وثيقة، لكنها ليست متكافئة، ولا قائمة على النديّة، هناك تبعيّة تتراوح درجاتها من بلد لآخر، والعرب دون دول ومناطق العالم يرهنون أوراقهم كلها في أيدي أمريكا، وكأنهم بدونها لن يقدروا على العيش، أو حماية أنفسهم، الشعوب هي من تحمي أوطانها، والإرادة هي من تصنع المستحيل في بناء وتنمية الأوطان، ودول العالم التي تقدّمت ونهضت لم يكن ذلك بالاعتماد على أمريكا، إنما بالجهود الذاتيّة، وبحشد الطاقات الشعبيّة، وبالثقة بالذات، وبالعلاقة التصالحيّة الطبيعيّة بين النظم وبين شعوبها.

وإذا كانت علاقات بعض العرب توترت مع الرئيس الأمريكي السابق أوباما، فإنهم استثمروا في الرئيس الحاليّ ترامب، وهذا الرهان والاستثمار كان سابقاً على فوزه، خلال فترة الدعاية، لم يكونوا يريدون هيلاري كلينتون لأنها في حساباتهم ستكون امتداداً لأوباما وسياساته، وهم اعتقدوا أنه لم يقف معهم، بل اتجه إلى إيران، والحقيقة أنه قدّم لهم خدمة كبيرة حيث وضع برنامج إيران النووي تحت الرقابة بعد أن أوقفها عن تطوير قدراتها النوويّة، كانت إيران تحت العقوبات الأمريكيّة والدوليّة، ولم تعبأ وواصلت تطوير قدراتها، منذ توقيع الاتفاق النووي في 2015 وكل هذا توقف، تمّ وضع إيران تحت كاميرات مراقبة عالميّة على مدار الساعة، أليس هذا أفضل؟، أم كانت تستمرّ في التخصيب وتشغيل المفاعلات ليُفاجأ العالم يوماً بإعلان نفسها دولة نوويّة؟.

أوباما أفاد، ولم يضرّ، وترامب الذي يعقدون شراكة وثيقة معه ويتصوّرون أنه سيفيد، ولن يضرّ، يحدث العكس معه منذ دخل البيت الأبيض، إذ أنه بإشعال المواجهة مع إيران منحها فرصة ذهبيّة للإسراع بتطوير منظومتها الصاروخيّة التقليديّة، وهي تقوم بذلك بالفعل، وبإنفاق كبير، ومبرّرها أنها باتت مهدّدة، وعليها أن تدافع عن نفسها، مثلما فعل مع كوريا الشمالية حيث دفع نظامها لتطوير صواريخه طويلة المدى، وإجراء تجارب ناجحة عليها، وربما في أي لحظة تعلن كوريا الشمالية نفسها دولة نوويّة، كان الهدوء يسود جبهتي إيران وكوريا، لكن ترامب فجرهما، والعواقب وخيمة عليه وعلى حلفائه وعلى استقرار العالم.

أن تستعين بترامب، وتقدّم له ما لم يكن يحلم به، وتتصوّر أنه سيدافع عنك، فإن هذا «وهم» كبير، أمريكا لن تحارب نيابة عن أحد، والتاجر أعلن ذلك صراحة في قمة الرياض، وأركان إدارته يكرّرون هذا كثيراً، وقبل أيام قال وزير دفاعه إن واشنطن لن تلجأ للخيار العسكري أبداً مع إيران، إنما ستتجه للعمل الدبلوماسيّ فقط، ووزير خارجيته تيلرسون مع الحوار وفتح قنوات تواصل مع كوريا.

فريق من العرب ربط نفسه بـ ترامب، وهذا رفع وتيرة ابتزازهم، وقلل من قدرتهم على الحركة الحرّة، واتخاذ الموقف المناسب رداً على عدوانيته تجاه فلسطين والقدس والعرب والإسلام نفسه، وهذا الفريق وإرضاء له وللمتصهينين في إدارته، وعلى رأسهم صهره جاريد كوشنر، يندفع أيضاً نحو إسرائيل للتطبيع، ولو تطلب الأمر فإنه سيتحالف معها ضدّ إيران باعتبارها «عدواً» مشتركاً، صارت إيران هي العدو، وإسرائيل هي الصديق، وإيران دولة تتدخل في شؤون العرب فعلاً، لكن إسرائيل ليست حملاً وديعاً، فهي تريد اقتلاع العرب جميعاً من جذورهم، ولا صديق أو حليف لها مهما قدّم من خدمات سخيّة.

صوت عواصم عربيّة جاء خافتاً مع قرار ترامب بشأن القدس، خجلاً منه، وتجنباً لإغضابه، وجدوا أنفسهم في مأزق، فهي قضية غاية في الحساسية لا ينفع التفريط فيها لأن التخاذل أمام الشعوب مكلف لهم، من يتواطأ ولا يقوم بواجبه فإن مصيره سيكون مؤلماً.

لذلك صوتت العواصم العربية كلها بما فيها المتماهية مع ترامب بإيجابية رغم تحذيره وتهديده الشديد لمن يقف ضده في الجمعية العامة، وإذا كانت بعض الدول ليست بحاجة لأموال أمريكا، بل هي التي تمنحها المال، فإن الدول التي تحصل عليه منها لم تعبأ بتهديداته لأنها تدرك عواقب الاصطفاف في الجانب الخاطئ في هذه القضية.

المهم في كل هذا أن يكون التصويت العلني، هو نفسه الموقف الحقيقي للعواصم العربيّة من القدس، ومن فلسطين، وقضيتها، وشعبها، وحقوقها المشروعة العادلة، المهم ألا تكون هناك ازدواجيّة بين المُعلَن، وبين الخفيّ، نريد وجهاً واحداً، وموقفاً واحداً حتى تكون الثقة كاملة بين النظم والشعوب، وحين يكون الصدق ديدنهم في الدفاع عن القدس، فإن ذلك سيكون بداية الطريق لاسترداد الحقوق.