نارام سرجون: اسئلة حائرة الى السيد المسيح

 

في كل مراحل حياتي كنت أحس أنه لم يحرجني احد بكرمه لأنني كنت حريصا على أن أبارز الكرام بالكرم .. وأسبقهم أميالا ولكن هل من كرم يضاهي كرم أولئك الرجال الذين أهدوا لنا نصرا من قلب الصحراء .. قلب الصحراء الذي يتحدى ماء النهر .. بل يرتدي نهر الفرات مثل قلادة طويلة مائية على صدره عليها لؤلؤتان هما الرقة ودير الزور .. تلك الصحراء التي لم يعبرها منذ زمن خالد بن الوليد جيش الا الجيش العربي السوري ..

قلب الصحراء ليس جافا ولايابسا كما كنا نظن .. وليس قاسيا .. وليس مليئا بالرمل الذي يضخه مثل الدم في عروق الصحراء .. لكنه يجف دوما عندما يمر به موكب أمير نفطي كما تجف النخوة في عروق ذليل .. وكما يجف الايمان في صدر واعظ متكسب في بلاط ملك .. لكن قلب الصحراء الجاف يصبح أحيانا سخيا .. رطبا .. ومبللا .. و يصبح ماطرا .. ويفيض كقلب بحيرة .. ويصبح مثل قلب الفرات العذب وربما أكثر حلاوة وعذوبة وبرودة وطلاوة .. ويصبح الرمل فيه مثل الثلج والجليد الصافي .. عندما يلتقي بالابطال وتمسكه أياديهم وتعجنه سلاسل دباباتهم المظفرة مع لحم الصحراء ..

هؤلاء الأبطال الذين قهروا قلب الصحراء وعصروا منه الماء والثلج في دير الزور أكثر كرما منا جميعا .. وعندما ننظر اليهم وهم يسيرون في البادية وكأنها حدائق الجنة نحس بالخجل والعار من مكاتبنا المكيفة ومن الماء المثلج الذي يستقر في كؤوسنا البليدة وحلوقنا الكسولة المترفة المترهلة .. ونحس بالخجل من ثيابنا الرقيقة المزركشة بالألوان والرسوم .. ويحس كل من يتابع خطواتهم الواثقة أنه ضئيل وهزيل وأن لحمه الغض الهلامي ليس مثل لحمهم الذي صار على عشرة الرصاص أقوى من الرصاص .. ونتمنى جميعا أن تتحول ربطات العنق الفاخرة في أعناقنا الى مشانق لنا في السهرات التي نثرثر فيها عن البطولات ..

في الحقيقة انني لأول مرة أحس في حياتي أنني أريد أن أتوجه بالسؤال الى السيد المسيح لأستفسر منه ان كان ماقاله لايزال ساري المفعول وان جدّ جديد عليه .. وأنا اليوم أحتاج الى شرح وفتوى لما علمنا اياه اذ قال: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .. ومن سار معك ميلا فسر معه ميلين ..

ولكن ماذا عمن قبّلنا على خدنا الأيمن وخدنا الأيسر؟؟ هل نقدر لمن قبلنا على خدنا الأيسر في حلب وخدنا الايمن في دير الزور الا أن نغسل قدميه كما كان السيد المسيح يغسل أرجل تلاميذه ؟؟.. ألا يستحق منا هذا الذي سار على الرمال لننتصر أن نغسل رجليه بماء الورد وأن نقبل حذاءه؟؟ وهل يمكن ان نكافئ هؤلاء الرجال بأن نسير معهم ميلا واحدا فقط أو ميلين وهم الذين يجتازون الصحراء بمئات الأميال من أجلنا؟؟ .. فهؤلاء الرجال ساروا من أجلنا في الصحراء ألف ميل وحدهم .. فلن يكفي ان نسير معهم عشرين الف ميل .. ومئة الف ميل .. وسنة ضوئية .. في قادم الأيام ..

هؤلاء هم القلائد التي ستتزين بها الصحراء منذ اليوم .. ستنزع الصحراء عن صدرها قلادة نهر الفرات الطويل التي ارتدتها ملايين السنين لأنه صار قلادة قديمة أمام القلادة الجديدة التي تعرفت عليها الصحراء .. فسترتدي الصحراء الشامية منذ اليوم قلادة من أرتال الدبابات وارتال المشاة المرصعين بالجنرالات الأبطال .. الذين يقصفون بالنار العدو .. ويقصفون الصحراء بقذائف الياسمين .. لتنبت غدا في قلب الرمل بساتين الياسمين ..