نارام سرجون: القلق التوراتي والقلق الروسي

في الشرق الأوسط هناك ترمومتر نادر جدا ينبئنا عن درجة حرارة الحرب ويعطينا إشارات عن القوى السياسية التي تكسب الحرب او تخسرها .. وهو في غاية الدقة ويغنينا عن الاعتماد على قراءة نشرات المحللين السياسيين وتقلبات الطقس السياسي واقتراب المطر أو انقشاع الشمس عن هذه العاصمة أو تلك .. بالطبع ليست أعصاب وليد جنبلاط وتقلب درجات الحرارة لديه وحركاته النواسية هي ماأعني بهذا الترمومتر .. بل أعني بالترمومتر أعصاب التوراة .. توراة إسرائيل ..
عندما تستريح أعصاب إسرائيل وتكون منتشية يبدو ذلك منعكسا على سلوكها واحتقارها للعرب .. ولذلك فان العصر الذهبي لإسرائيل قد عاشته في أجمل رحلة من رحلات العمر اليهودي الحديث إبان الربيع العربي وهي ترى الشعوب العربية تفتك بعضها بالجملة والمفرق وهي غارقة في حروب بينية وداخلية طاحنة .. ولايمكن أن توصف مشاعر الاسرائيليين المغتبطة وهم يبنون مستوطنة في كل يوم فيما على الطرف الآخر في المحيط العربي يدمر العرب مقابلها مدينة عربية كاملة وكأنهم يفرغون الأرض لمن يبنيها بالمستوطنات .. الشرق كان يعيش ذروة المجد التوراتي وهو يتحول إلى أنقاض وأشلاء ومتحف للديانات والقوميات التي انتحرت من أجل المذاهب ومن أجل حكم الشرع ..
اليوم يمكن القول بأن حفلة الرقص التوراتية بدأت تصل إلى النهاية .. وبدأ عصر القلق التوراتي عندما اندحر التوراتيون الإسلاميون الذين قاتلوا بالنيابة عن الجيش التوراتي اليهودي ..وصار الوجود الإرهابي ينكمش تدريجيا ويتحول هذا الجيش الى جيش يسافر بالباصات الخضراء بعد أن كان يمتطي صهوة السيارات المفخخة ويدخل مدننا على ناقات الصحابة ..
من يلاحظ مؤشر القلق الإسرائيلي يلاحظ أن هذا المؤشر يرتفع .. وعندما يبدأ القلق الاسرائيلي فعلينا أن نعلم أن اخبارا جيدة تحدث على الجبهة الشمالية حيث محور المقاومة ..
يدرك الإسرائيليون جيدا أن مافعله الربيع العربي هو أنه قام بعملية وقائية سريعة أنقذ بها إسرائيل من حتمية هزيمة منكرة على يد محور المقاومة ظهرت جلية بعد حرب 2006 لأن حيرة إسرائيل في تجاوز معضلة التطور القتالي الحاصل على الجبهة الشمالية كانت كبيرة جدا .. ففي الشمال يتطور العقل العسكري لأعدائها وأدواتهم بسرعة تفوق تطور الردع والتكنولوجيا الإسرائيلية .. ولن تمر عشر سنوات بعد حرب 2006 وفق النظريات العسكرية الا وتلحق بإسرائيل هزيمة أقسى تكون نقطة انعطاف قاتلة في تاريخها ووجودها .. وكانت العناية الإلهية في نجاح مشروع الربيع العربي الذي ضرب المنطقة .. ولكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال التوراتية لأن إسقاط دمشق كان أهم مرحلة في هذا المشروع الذي كان يريد توفير أمن لإسرائيل لقرن كامل .. لأن طبيعة العقل التوراتي قلقة جدا ولاتحس بالأمان إلا إذا كان هناك ضمانات تحمي إسرائيل لمئة سنة كاملة خوفا من عقدة خراب الهيكل والسبي البابلي .. فكل اتفاقات إسرائيل مع العرب كانت مبنية على وضع خطط أمان واتفاقات تشل الخصم لما يفوق قرنا كاملا .. ولم يخف الاسرائيليون في اي مفاوضات مع طرف عربي أنهم يريدون وضع شروط أمنية قاسية تضمن أمن إسرائيل لمدة لاتقل عن 125 سنة مقبلة بذريعة القلق التوراتي .. وبدا ذلك جليا في مفاوضات الإسرائيليين من أجل الجولان .. فقد كان رابين وفريقه يطلبون محطات انذار مبكر في الأراضي السورية تسمع همسات العسكريين السوريين في نطاق يصل الى مابعد حمص .. وكانوا يطلبون تخفيض عديد الجيش السوري بشكل كبير ونشر مايتبقى منه على الطريقة المصرية في سيناء بعد كامب ديفيد بحيث يكون هناك منطقة (أ – ب – ج) شمال الجولان .. ويكون محظورا على وحدات الجيش السوري تجاوز المنطقة ج في حمص .. كما هوالحال في سيناء حيث لايسمح للجيش المصري بإدخال عتاد ثقيل وقوات مصرية (عدد محدود جدا) الى المنطقة التي تقترب من حدود فلسطين المحتلة ويبقى الجيش مربوطا بالسلاسل الى منطقة القناة دون أن يتعمق في سيناء تحت أي ظرف .. ولكن كان السوريون على العكس مصرّين على أن من حقهم ان يوزعوا جيشهم كما يشاؤون في أرضهم بلا حدود ولاقيود طالما أنها حق سيادي وأن الظرف الوحيد لقبول الطلبات الاسرائيلية هو في أن تقبل إسرائيل بمبدأ المعاملة بالمثل .. أي أن توضع محطات انذار مبكر سورية مماثلة للإسرائيلية في الجولان وأن ينسحب الجيش الإسرائيلي عن الحدود السورية الى داخل فلسطين بنفس مسافة تراجع الجيش السوري إلى حمص .. أي إلى عمق لايقل عن 160 كم فيضمن الطرفان عدم قدرة الآخر على الاعتداء .. وطبعا نقل الوسطاء الأمريكيون للسوريين رفض الإسرائيليين لطلباتهم وكان تبرير الاسرائيليين بأن شروطهم يمليها عليهم القلق التوراتي من الفناء والخراب وأن أي تدابير أمنية ومعاهدات سلام يجب أن تكون مصممة على ضمان أمن اسرائيل لمدة لاتقل عن 125 سنة .. كي ينام الشعب اليهودي في اسرائيل بهدوء دون رعب .. وهو الذي لم ينم منذ عام 1948 خاصة على الحدود الشمالية ..
الربيع العربي كان مقصودا منه خطة اسعافية عاجلة لتشتيت الشمال السوري لتأمين استقرار للشعب الاسرائيلي وضمان أمنه لمدة 125 سنة قادمة كي ينام مرتاح البال بعد أن قض مضجعه كابوس حرب 2006 وجعله لاينام لحظة واحدة وهو ينتظر “نبوخذ نصرالله” وحلفاؤه يقتحمون أورشليم .. ولكن الربيع السوري انتهى الى فشل ذريع رغم أنه سيريح اسرائيل ربما لمدة خمس سنوات قادمة ستكون فيها جبهة الشمال مشغولة بإعادة الأعمار .. ولكن خمس سنوات لاتساوي شيئا في ميزان السنوات الـ 125 التي تساوي القلق التوراتي ..
من واجب الإسرائيليين أن يجتاحهم القلق .. وبدا قلقهم واضحا في تجنب المواجهة مع الفلسطينيين في الأقصى الذين لاشك كانوا يحسون أن إسرائيل قلقة من بقاء الشمال مقاوما ومن نجاته من الانهيار ولم تملك الشجاعة لفتح معركة الأقصى قبل أن تموت جيوش الشمال .. فالاسرائيليون خرجوا من الربيع السوري بنتائج خالفت كل توقعاتهم .. لأن الجيش السوري تحول الى قوة أكثر خطرا مما كان عليه قبل الحرب .. فقد جدد الروس سلاحه .. كما أن التجربة العسكرية التي خاضها لايمكن انكارها ولايمكن تجاهلها .. فالحرب هي الحرب .. وفي الحرب يتحول الجنود الصغار الى جنرالات كبار .. ويساوي اليوم أي جندي سوري بأصغر رتبة (من حيث الصبر والشكيمة والتعود على الظروف العسكرية القاسية والاعتماد على المبادرة الفردية وتطور الشجاعة) يساوي جنرالا وكولونيلا اسرائيليا لم يطلق الرصاص من بندقيته الا على المنتفضين الفلسطينيين وكان أكثر ماأطلقه هو غازات مسيلة للدموع لتفريق الفلسطينيين ورصاصات إعدام الأطفال على الأرصفة بحجة حملهم للسكاكين .. .
من جهة أخرى دخل حزب الله لأول مرة في حياته أكبر مناروة عسكرية بالذخيرة الحية وتحول تدريجيا الى جيش فريد من نوعه يجمع خاصية القوات الشعبية وخاصية القوات النظامية .. بعد ان كانت الغاية من الاشتباك معه عبر الجيش التوراتي للقاعدة تحويله الى ميليشيا تقاتل ميليشيا .. والى حزب يأكله الشعور المذهبي وتأكله المذاهب ..
لايزال الإسرائيليون يأملون أن يكون مكسبهم الوحيد في هذه الحرب هو أن توافق سورية على أبعاد إيران وحزب الله والجيش السوري عن خطوط التماس في الجولان ليس الى حمص كما كانت شروط معاهدة السلام بل الى بعد عشرة كيلومترات فقط عن نقاط فض الاشتباك القديمة .. وهذا مالم يتحقق حتى الآن .. وكانت زيارة هنري كيسنجر للقاء بوتين قبل أسابيع من أجل تفويض روسيا بالأمن في المنطقة الجنوبي من سورية وخاصة ضمان أمن اسرائيل بإبعاد إيران وحزب الله عن الحدود في الجولان مقابل أن يتم لجم الغزوة الإسلامية لسورية .. وتسرب أن الروس وافقوا على ضمان تخفيف التوتر في الجنوب وربما عدم نشر سلاح نوعي روسي آنيا في الجنوب السوري ولكنهم رفضوا التعهد بغير ذلك أو فرض ارادة أخرى على السوريين تمنعهم من استرداد أرضهم مستقبلا لأن ذلك سيجعل من الروس قوات احتلال تخدم اسرائيل في نظر الشعب السوري ونظر العسكريين السوريين .. وسينقلب الرأي العام السوري الذي يرحب بالوجود الروسي اليوم إلى شعور غير مرحب لأن الغاية من الوجود الروسي سيفهم منها أنها لم تعد حماية سورية بل حماية إسرائيل .. وهو مالاتريده أي قيادة روسية حسب نصائح معاهد الأبحاث الروسية التي تصر على أن لايحس السوريون أبدا أنهم مرغمون على إتباع سياسة روسية تخص استقلالهم وقرارهم الوطني .. وغير ذلك هو مالايقدر اي سياسي روسي على اعتماده والتورط به لأنه سيعرض الوجود الروسي كله والمصالح الروسية للخطر مستقبلا وسيفرط بكل انجازات روسيا في أوساط الشعب السوري .. وكان الروس واضحين جدا في هذا الشأن مع كيسنجر والإسرائيليين على حد سواء .. ورفضوا اي إجراءات لتخفيف القلق التوراتي على حساب القلق الروسي ..
انتهت غزوة داعش والنصرة في الشرق وعاد الاميريكون والاسرائيليون بخفّي ابي بكر البغدادي وأبي محمد الجولاني .. ولذلك فان راعي البقر قرر اطلاق النار على أبقاره المريضة .. فبدأ يتخلى عن الرجلين اللذين حملاه على أكتافهما منذ ست سنوات ونيف ..
القلق التوراتي يستيقظ من جديد وتهتز أعصاب اسرائيل كل يوم الآن اثر تحرير كل قرية وكل تلة .. أعصاب التوراة مشدودة ومتوترة وهي ترى اقتحام عرسال ومرتفاعاتها التي تذكرها بمرتفعات الجولان .. وأعصاب التوراة توترت جدا وهي تراقب تمدد الجيش السوري في حلب وأريافها .. وهي الآن مشدودة جدا في دير الزور والرقة والمنطقة الشرقية .. وتبحث في الأكراد عن منقذ جديد يحمل الهمّ التوراتي بعد أن سقط الحمار التوراتي المتمثل في الإسلام الوهابي الإرهابي .. منقذ يسمح لعين التوراة أن تغمض وتنام وتغفو في الشرق لقرن من الزمان ..
ولكن هيهات أن نسمح للعين التوراتية أن تنام بعدما فعلت بالشرق كل مافعلت .. وهيهات أن نبقيها دون أن نقتلعها من وجه الشرق .. فكيف تنام عين توراتية وكيف تسترخي الكوابيس التوراتية .. وكل جندي منتصر في الشمال صارت تراه عين التوراة “نبوخذ نصرالله” .. القادم إلى أورشليم .